الأمانة بمعناها الروحي هي نفسها بالمعنى الظاهر ، أي : أنها الوديعة المفروض المحافظة عليها وأداؤها إلى أهلها كما هي ، ومن الطبيعي والحال هذا أن تتعدد الأمانات وتتنوع إلى ما لا يمكن حصره ، فكل شيء يصلح أن يكون أمانة ، ومن هنا جاء الاختلاف في فهم المراد بقوله تعالى : إِنّا عَرَضْنا الْأَمانَةَ عَلى السَّماواتِ والْأَرْضِ والْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها ( الأحزاب : 72 ) وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدّوا الْأَماناتِ إلى أَهْلِها ( النساء : 58 ) سواء عند أهل الظاهر أو عند أهل الكشف والحقائق .
والذي نراه هو أن الأمانة في ذاتها حقيقة كلية امتدت من الحقيقة المطلقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم فكان نورها في كل قلب يعكس معنىً يتناسب ومستوى ذلك القلب من الطهارة والسلامة والصفاء ، حالها في ذلك حال ضوء الشمس الذي ينعكس بألوان مختلفة حين ينفذ من خلال الزجاج الملون ، فأنوار الحقائق المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآنية الكلية حين تنفذ من زجاج القلب الذي هو حاله الملون بألوان الاعتقادات تنصبغ بصبغته ، وعلى هذا فإن كل ما ذكره أهل الظاهر في تفاسيرهم ومباحثهم ، وكذلك كل ما ذهب اليه الصوفية عن طريق الكشف وتناقلوه فيما بينهم أو سطروه في مصنفاتهم إنما هو أوجه حق تمثل مستويات مختلفة لفهم النص القرآني أو المحمدي المطلق .
ومن هنا فإن لنا وجهاً في فهم هذه النصوص الكريمة ، معتمدين في هذا الفهم على ما أرانا الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في ذواتنا من حقائق الأمور المسـتمدة من قــوله تعــالى : فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ( الأنبياء : 79 ) ، ولقد بسطنا فهمنا على أساس القاعدة الظاهرة التي تقول :
( إن القرآن يفسر بعضه بعضاً ) لتكون أبين لأولي الألباب . فنقول :
إن الأمانة في أصلها ترجع إلى أمانتين : أمانة الله تعالى وأمانة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله تعالى : يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَخونوا اللَّهَ والرَّسولَ وَتَخونوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ ( الأنفال : 27 ) ، أي : لا تخونوا الله في أمانته ، ولا تخونوا أمانة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم . فما هي أمانة الله ؟ وما هي أمانة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
أمانة الله تعالى
إن أمانة الله التي أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها لعظمها المطلق : هي نور الرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه ، ولقد أكد الحق سبحانه وتعالى عدم إمكانية أي شيء في الوجود على تحمل نزول هذا النور في قوله : لَوْ أَنْزَلْنا هَذا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرونَ ( الحشر : 21 ) ، فلما كان القرآن هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لم تستطع الجبال ولا غيرها من الموجودات تحمل النفحات الجمالية والسطوات الجلالية لهذا الكمال المطلق ، ولكن الإنسان بما أودع الله فيه من أسرار النفخة الروحية قَبِل حملها . أي قبل اتباع النور المحمدي صلى الله تعالى عليه وسلم وطاعته ومحبته والفناء فيه من أول مخلوق من جنسه وهو آدم وإلى آخر من سيخلق من ذريته ، وكان هذا من ظلمه وجهالته .
وبعد قبول الإنسان لحمل هذه الأمانة أخذ الله تعالى الميثاق على النبيين وأممهم وعاهدهم على ذلك فقال سبحانه : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ ميثاقَ النَّبِيّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إِصْري قـالوا أَقْرَرْنا قالَ فاشْــهَدوا وَأَنا مَعَكُمْ مِنَ الشّــاهِدينَ ( آل عمران : 81 ) ، فكان حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قبل ظهوره أمانة الله تعالى عند الأمم السابقة ، فكانوا حين يدعون إلى الله تعالى يذكرون الناس بميثاق الأزل وأن عليهم اتباعه ، فإذا ظهر الرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في زمنهم فعليهم أن يفوا بعهدهم ولا يخونوا أمانتهم ، فكان بعض الناس يذّكرون وبعضهم الآخر يظلمون أنفسهم ويتجاهلون ، وهكذا تتابعت الأنبياء في أممهم يحملون أمانة الله منتظرين أن يؤدوها إلى أهلها أي يطيعوا الرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إن ظهر في زمنهم ، واستمر التبشير والتنذير إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً وأذن بظهور الذات المحمدية المقدسة صلى الله تعالى عليه وسلم ، ووقتها عرفه العارفون فوفوا بعهد الله في الازل ، وجهله الجاهلون : وَما ظَلَمْناهُمْ وَلَكِنْ كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمونَ ( النحل : 118 ) . إذ أصل الأمانات وأعظم الأمانات ويمكن القول أمانة الأمانات : هي أمانة الله : وهي حضرة الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتأديتها كان ولا زال بتصديقه وطاعته ونصرته صلى الله تعالى عليه وسلم .
أمانة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
وأما أمانة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم التي تركها لنا وأوصى بالتمسك بها على اعتبار أنها تمثله شخصياً بعد رجوعه إلى عالم الشهود والحق ، إنما هي ما ورد ذكره في الحديث الشريف :
إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي آل بيتي (1) ، إنهما الصورة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم الباقية إلى قيام الساعة وهما الأمانة التي هي في حقيقة الأمر أمانة الله ، فما أوجبه الله تعالى على الأمم كلها في الميثاق أوجبه حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم على أمته وأخذ عهدهم عليه .
إن الكتاب والعترة المطهرة في اجتماعهما معاً يشكلان الطريقة ؛ لان الطريقة في حقيقتها تعني : الوارث المحمدي المتحقق بالقرآن قولاً وفعلاً وحالاً أي أنه القرآن الناطق . إذ أمانة الله : هي أمانة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأمانة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم : هي الطريقة ( الكتاب والعترة ) .
وأما أداء أمانة الطريقة إلى أهلها : فأصبح واضحاً من اتخاذها وسيلة تقريب إلى الله تعالى عن طريق التمسك بها ، والعمل بما تنص عليه من منهج الاستقامة الذي يشترط أول ما يشترط محبة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وآل بيته وموالاتهم ومناصرتهم والسير على نهجهم وهداهم ، وكذلك نشرها بين الناس لتعم بركتها على الأمة كلها . وكما تجاهل البعض وخان هذه الأمانة في عهد الأنبياء وفي عهد الظهور المحمدي فقد خان بعض الناس هذه الأمانة بعد انتقاله صلى الله تعالى عليه وسلم . فمنهم : تارك للكتاب والعترة غرته الحياة الدنيا ، ومنهم : تارك لأحدهما غره بالله الغرور . فهذا هو المراد من قوله تعالى : لا تَخونوا اللَّهَ والرَّسولَ وَتَخونوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ ( الأنفال : 27 )